الأحد، 5 أغسطس 2012

الخليفة العباسي هدم كنائس الأقباط وقبورهم وفرض عليهم زيًّا موحَّدًا

عبد الوهاب عيسى يكتب: الخليفة العباسي هدم كنائس الأقباط وقبورهم وفرض عليهم زيًّا موحَّدًا


عبد الوهاب عيسى يكتب: الخليفة العباسي هدم كنائس الأقباط وقبورهم وفرض عليهم زيًّا موحَّدًا
الأحد 5 أغسطس 2012
صورة أرشيفية
ثار الأقباط على سياسات العباسيين فقتلوا رجالهم وباعوا نساءهم وأطفالهم عبيدا وحوَّلوا بيوتهم إلى مساجد

يختلف المؤرخون فى الحكم على الخليفة العباسى العاشر المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (232-247هـ)، فمؤرخو المحدثين يرونه الخليفة الذى أعز الله به الإسلام وأظهر على يديه السنة ومحا البدعة، ولا غرو فقد تحالفا معا ضد كل الفرق والمذاهب الأخرى وتعاونا فى القضاء على المخالفين، بينما يراه المؤرخون المعاصرون رجلا متعصبا أرعن مشبوبا بامتهان وتعذيب وقتل من يخالفه الرأى.

لقد كان عصر المتوكل شديد الدموية أعلن فيه الحرب على الفرق الإسلامية المعتزلة والشيعة والصوفية، ولم يكن غير المسلمين بأحسن حال، فقد سامَهم المتوكل وحلفاؤه الحنابلة سوء العذاب، تفنن فى إذلالهم والتمييز ضدهم، فحين أباح الإمام أحمد بن حنبل للخليفة المتوكل هدم كنائس السواد، وهى أرض العنوة، أصدر أوامره على الفور بهدم هذه الكنائس، ثم تلاها بقرارات تمييزية ضد غير المسلمين غاية فى البشاعة. يروى الطبرى فى تاريخه «وفى هذه السنة سنة خمس وثلاثين ومئتين، أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية -شال كبير كالذى يضعه اليهود على أكتافهم الآن فى وقت الصلاة- والزنانير -الزُّنَّارُ: حزامٌ يَشُد على الوسط- وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة -ما يلبس فى الرأس-، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلى، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا فى إزار عسلى وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم كنائسهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإذا كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين». بعد كل هذا التمييز على مستوى المظهر انتقل إلى التمييز فى وظائف الدولة. يقول الطبرى وكثيرون «ونهى أن يستعان بهم -غير المسلمين- فى الدواوين وأعمال السلطان التى يجرى أحكامهم فيها على المسلمين. ونهى أن يتعلم أولادهم فى كتاتيب المسلمين ولا يعلمهم مسلم. ونهى أن يظهروا فى شعانينهم صليبا، وأن يشعلوا فى الطريق. وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلا تشبه قبور المسلمين. وكتب إلى عماله فى الآفاق». ولا أدرى من أين أتى المتوكل بكل هذا الكم من الكراهية والعنصرية؟ فما من دين أو أخلاق تسمح بهذا.

إن نص الرسالة التى أرسلها لولاته فى الأمصار توضح لنا بعضا من السبب، وقد رواها كثير من المؤرخين وننقلها من الطبرى بتصرف «أما بعد فإن الله تبارك وتعالى بعزته التى لا تحاول وقدرته على ما يريد اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه على الأديان، مبرءا من الشبهات، معصوما من الآفات محبوًّا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله وبين لهم من شرائعه وأحكامه وحد لهم من حدوده ومناهجه، فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذى اختاره لهم بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية وأحكامهم المرضية الطاهرة وبراهينهم المنيرة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حىّ عن بينة، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين والخزى فى الدنيا والآخرة على الكافرين».

إن مقدمة الرسالة تذكرنا بمقدمات خطب ودروس السلفيين اليوم لترينا كيف أنهم يكررون كل شىء حتى مقدمات الكلام، كأن حياة المسلمين قد توقفت عند هذه الأيام وما دعا داع إلى التغيير والتجديد، إنها مقدمة تمجيدية تبجيلية يستخدمها كل من يريد أن يسوِّق بضاعة كاسدة، إن مقدمة الرسالة توضح لنا أيضا مدى سيطرة الأفكار السلفية على عقل الخليفة، فالتعالى الدينى فكرة سلفية بحتة، ولقد وجد جنون الخليفة باضطهاد الناس ما يبرره بهذا التعالى، لقد وجد الشذوذ النفسى عند المتوكل، الذى لا يؤيده نص قرآنى أو نبوى، وسواء كان المتوكل كاتب الرسالة -وهذا مستبعد- أو كتبها غيره وأرسلت بعد موافقته -بطبيعة الحال- فإن الرسالة توضح سيطرة الفكر السلفى الحنبلى على مؤسسة الخلافة ونكمل فى أوامره «لقد رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه وإرشاده أن يحمل أهل الذمة جميعا بحضرته وفى نواحى أعماله أقربها وأبعدها وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التى يلبسونها من لبسها من تجارهم وكتابهم وكبيرهم وصغيرهم على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره. ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ، يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما فى مثله على موضع أمام ثوبه الذى يلبسه تلقاء صدره ومن وراء ظهره، وأن يؤخذ الجميع منهم فى قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها القلانس، ترتفع فى أماكنها التى تقع بها لئلا تلصق فتستر، ولا ما يركب منها على حباك فتخفى وكذلك فى سروجهم باتخاذ ركب خشب لها ونصب أكر على قرابيسها تكون ناتئة عنها وموفية عليها لا يرخص لهم فى إزالتها عن قرابيسهم وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم ليقع ما وقع من الذى أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير مكان المناطق التى كانت فى أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فى ما أمر به أمير المؤمنين فى ذلك إيعازا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم فى إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التى أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله».

ثم زاد المتوكل بعد أربع سنوات أوامر اضطهادية أخرى، كما يروى الطبرى وآخرون، فى أحداث سنة تسع وثلاثين ومئتين فأمر «أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع فى المحرم منها، ثم أمر فى صفر بالاقتصار فى مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين».

ولم يرو لنا المؤرخون سببا نصيا لهذا الاضطهاد والتمييز والتحقير لآدميين الذين كرمهم الله وأهانهم المتوكل أبشع الإهانات، إلا أن حنبليا كبيرا هو ابن القيم يروى ما يعده سببا يروى فى أحكام أهل الذمة «وحج المتوكل تلك السنة، فرُئى رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاؤوا به سريعا، فأمر بمعاقبته، فقال له والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامى ومر بقتلى، فقال قل، فقال لقد اكتنفت دولتَك كُتّاب من الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساؤوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو المرء فى قبره بعمله، فبكى المتوكل إلى أن غشى عليه، وخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية، وأن لا يمكنوا من لبس الثياب لئلا يتشبهوا، وأن تهدم بيعهم المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية ولا يفسح لهم فى دخول حمامات المسلمين وكتب الكتاب بذلك».

إن اعتبار هذه الرواية سببا أمر جد غريب من الإمام ابن القيم، فلقد شكا الرجل من ظلم العمال الذميين وفصلهم المتوكل جميعا، ففيما كان هدم الكنائس واغتصاب البيوت، والتمييز بالملابس ومنع الاحتفالات والصلوات وهدم القبور.

لقد طالت عذابات المتوكل أقباط مصر بأذى بالغ، وكانوا الأكثر حساسية ضد التمييز والامتهان فى المملكة الإسلامية، وقد ثاروا ثورات عديدة ضد ظلم وتمييز ملوك بنى العباس، وكانت آخر ثوراتهم ضد الخليفة السابع المأمون الذى يفصله عن المتوكل خليفتان، وقد شاركهم فى هذ الثورة الأعراب وكانت ردة فعل المأمون عنيفة فقد قهر الثورة بدموية، يروى المقريزى فى الخطط «انتقض القبط فى سنة ست عشرة ومئتين، فأوقع بهم الإفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية فبيعوا، وسبى أكثرهم، ومن حينئذ ذُلت القبط فى جميع أرض مصر، ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامّة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين، فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة»، إن هذه المجزرة العباسية هى ما منع أحرار مصر من الانتفاض مجددا ضد التحقير الرسمى المتوكلى لبعض مواطنى الدولة.

لقد وقف المتوكل على حافة الجنون بسياساته فى الحكم، بينما كان عين الجنون أن نجد اليوم من يجعل من سياسات المتوكل الشاذة هذه دينا ويريد تطبيقها.


الدستور